فصل: الحكم الثالث: هل يقتص من الوالد بجنايته على الولد؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وجوه القراءات:

1- قوله تعالى: {وهنا على وهن} قراءة الجمهور بسكون الهاء، وقرأ الضحاك وعاصم {وهنا على وهن} بفتح الهاء فيهما.
2- قوله تعالى: {وفصاله في عامين} قرأ النخعي والأعمش {وفصاله} بفتح الفاء، والجمهور بكسرها، وقرأ الحسن وأبو رجاء {وفصله} بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف.
3- قوله تعالى: {يابني أقم الصلاة} [لقمان: 17] قراءة الجمهور بفتح الياء على تقدير {يا بنيا} والاجتزاء بالفتحة عن الألف، وقرأ البزي {يا بني} بالسكون، وقرأ بعضهم {يا بني} بكسر الياء مع التشديد.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {وإذ قال لقمان} إذ ظرف متعلق بفعل مقدر، وتقديره: إذكر إذ قال لقمان، ولقمان ممنوع من الصرف للتعريف والألف والنون الزائدتين كعثمان، وعمران، ويجوز أن يكون أعجميا، فلا ينصرف للعجمة والتعريف.
2- قوله تعالى: {وهو يعظه} وهنا: حال من الفاعل، والمعنى حملته أممه ذات وهن أو واهنة، وهذا اختيار أبي حيان والزمخشري.
والمصدر يأتي حالا بكثرة كما قال ابن مالك:
ومصدر منكر حالا يقع ** بكثرة كبغتة زيد طلع

واختار ابن الأنباري أن يكون منصوبا بنزع الخافض وتقديره: حملته أمه بوهن، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه.
والأرجح الأول لعدم احتياجه للتأويل بخلاف الثاني.
4- قوله تعالى: {أن اشكر لله} قال الزجاج: هي في موضع نصب على حذف حرف الجر، وتقديره، بأن اشكر، وقيل أن مفسرة بمعنى أي كقوله تعالى: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} [ص: 6] قال النحاس: والأجود أن تكون مفسرة.
5- قوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} انتصب معروفا على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: صحابا معروفا أو بنزع الخافض والتقدير: وصاحبهما بالمعروف.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما هي مدة الرضاع المحرم؟

استدل الفقهاء على أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم هو سنتان بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وفصاله في عامين} فإن المراد بالفصال الفطام فتكون السنتان هي تمام مدة الرضاع.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى في سورة البقرة (233) {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} الآية. على أن أقصى مدة الرضاع سنتان فقط.
وهذا رأي الجمهور مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن مدة الرضاع المحرم سنتان ونصف، ودليله قوله تعالى في سورة الأحقاف (15): {حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} الآية.
وله في الاستدلال من الآية الكريمة وجهان:
الوجه الأول: أن المراد بالحمل هنا ليس حمل الجنين في بطن أمه، وإنما حمله على اليدين من أجل الإرضاع فكأن الله تعالى يقول: تحمل الأم ولدها بعد الولادة لترضعه مدة ثلاثين شهرا، فتكون المدة المذكورة في الآية الكريمة لشيء واحد وهو الرضاع.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية الكريمة أمرين وهما: الحمل والفصال، وأعقبهما بذكر بيان المدة، فتكون هذه المدة لكل من الأمرين استقلالا ويصبح المعنى على هذا التأويل: حملة ثلاثون شهرا، وفصاله ثلاثون شهرا أي إن المدة لكل منهما عامان ونصف وبذلك يثبت أن مدة الرضاع عامان ونصف، وهو كما إذا قال إنسان عليه دين لفلان وفلان عندي مائة إلى سنة فتكون السنة هي أجل كل من الدينين، وكذلك هنا تكون الثلاثون شهرا مدة كل من الحمل والرضاع. وهذا الرأي الذي ذهب إليه أبو حنيفة رحمة الله لم يوافقه عليه تلميذاه أبو يوسف والإمام محمد بل قالوا بمثل قول الجمهور وهو أن مدة الرضاع المحرم عامان فقط.
الترجيح: ولعلنا بعد استعراض الأدلة نرجح قول الجمهور، لاسيما وأن تلميذيه قد خالفاه فيما ذهب إليه، ودليل أبي حنيفة وإن كان وجيها إلا أن يحتاج إلى تكلف في التأويل بخلاف دليل الجمهور. والله أعلم.

.الحكم الثاني: كم هي مدة الحمل الشرعي؟

أجمع الفقهاء على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر، وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15] ومن قوله تعالى في الآية الأخرى {وفصاله في عامين} فمن مجموع الآيتين الكريمتين يبتين أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور. قال ابن العربي في تفسيره: روي أن امرأة تزوجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوجت، فأتي بها عثمان رضي الله عنه فأراد أن يرجمها، فقال ابن عباس لعثمان: إنها إن تخاصمكم بكتاب الله تخصمكم، قال الله عز وجل: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15] وقال: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233] فالحمل ستة أشهر، والفصال أربع وعشرون شهرا، فخلى عثمان رضي الله عنه سبيلها.
وفي رواية أن علي بن أبي طالب قال له ذلك، قال ابن العربي: وهو استنباط بديع.

.الحكم الثالث: هل يقتص من الوالد بجنايته على الولد؟

ذهب الجمهور الفقهاء إلى أن الولد لا يستحق القود على أحد والديه بجناية أحدهما عليه، ولا يقتص منهما بسبب الولد، كما لا يحد إذا قذفه أحدهما ولا يحبس له بدين عليه.
ودليلهم أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالصحبة لهما بالمعروف فقال: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} وليس من المعروف أن يقتص من الوالد للولد، ولا أن يحبس في دينه، ولا أن يحد إذا قذفه لأن ذلك كله مما يتنافى مع صحبتهما بالمعروف. ولأنهما كانا سببا في حياته، فلا يصح أن يكون الولد سببا في إهلاك والديه. وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقاد للولد من والده».

.الحكم الرابع: هل تلزم طاعة الوالدين في الأمور المحظورة؟

قال القرطبي: إن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة، ولا في ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات، ونقل عن الحسن أنه قال: إن منعته أمه من شهود صلاة العشاء شفقة فلا يطعها.
ثم قال: والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: «نعم».
وهذه الأحكام استنبطها العلماء من قوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} فكما تحرم طاعة الوالدين في الشرك تحرم في كل معصية، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وهذا المعنى قد سنه الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه في خطبته الأولى حين تولى الخلافة على المؤمنين. فكان فيما قال:
أما بعد. أيها الناس: إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.

.الحكم الخامس: هل يصح سلوك طريق غير المؤمنين؟

ظاهر قوله تعالى: {واتبع سبيل من أناب} وجوب الاقتداء بالسلف الصالح وسلوك طريق المؤمنين، وتحريم السير في اتجاه يخالف اتجاههم كطريق المنافقين والكافرين. وقد صرح بهذا المعنى في قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: 115]. فلابد من الانضواء تحت رأية أهل التوحيد والإيمان واتباع سبيلهم، فالخير كله في الاقتداء بهم، والسير على منوالهم. ولقد أحسن من قال:
فكل خير في اتباع من سلف ** وكل شر في ابتداع من خلف

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- الحكمة هبة إلهية لا تنال إلا بطريق التقوى والعمل الصالح.
2- شكر النعمة واجب على المرء. ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
3- الشرك من أعظم الذنوب، وأكبر الجرائم عند الله وهو محبط للعمل.
4- طاعة الوالدين من طاعة الله، وبرهما مقرون بعبادة الله تعالى.
5- حق الأم على ولدها أعظم من حق الأب لأن أتعابها عليها أكثر.
6- لا تجوز الطاعة في المعصية. إنما الطاعة في المعروف كما بينه عليه السلام.

.حكمة التشريع:

أوصى الله تعالى بالوالدين إحسانا، وأمر ببرهما وطاعتهما والإحسان إليهما، وخص الأم بمزيد من العناية والاهتمام، فجعل حقها أعظم من حق الأب، لما تحملته من شدائد وأهوال تجاه طفلها الوليد، ولما قاسته من آلام في سبيل تربيته وحياته. فمن أحق بالعناية والرعاية من الأم؟! الأم التي حنت عليه فغذته بلبانها، وغمرته بحنانها، وآثرته على نفسها وراحتها فشقيت من أجل سعادته، وتعبت من أجل راحته، وتحملت الأثقال والآلام في سبيل أن ترى وليدها زهرة يانعة، تعيش بين أزهار الربيع، فكم من ليلة سهرت من أجل راحته، لتطرد عنه شبح الخوف، أو تزيل عنه ألم المرض، وكم من ساعة قضتها بين جدران البيت تحمله على يديها، متعبة مثقلة لتواسيه في وقت شدته ومحنته. فهل يليق بعد كل هذا أن يسلك طريق العقوق، أو يجنح إلى الإساءة والعصيان؟!
فحق الأم على ولدها عظيم، وفضلها عليه كبير وجسيم، إذ هي السبب المباشر في حياة هذا الطفل بعد الله عز وجل، فلولا رعايتها وحنانها، ولولا تحملها المتاعب والآلام، لما تربى وليد، ولا عاش إنسان!!
وقد أمر الله تعالى بشكر الوالدين، وطاعتهما وبرهما حتى ولو كانا مشركين، ولكنه جل ثناؤه حذر من اتباعهما ومسايرتهما في أمر الكفر والإشراك {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل. فطاعتهما مشروطة بطاعة الله، وفي الحدود التي يقرها الشرع الحنيف، ولا يكون فيها تضييع لحق الخالق، أو حق المخلوق، فشكر الوالدين من شكر الله، وطاعتهما- فيما ليس فيه معصية- من طاعة الله!! وصدق الله حيث يقول: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحكْمَةَ أَن اشْكُرْ للَّه}.
ولقمان قيل: أعجميٌّ. وهو الظاهر. فمنعُه للتعريف والعُجْمة الشخصية. وقيل: عربيٌّ مشتقٌّ من اللَّقْم وهو حينئذٍ مرتجلٌ؛ لأنه لم يَسْبقْ له وَضْعٌ في النكرات. ومَنْعُه حينئذٍ للتعريف وزيادة الألف والنون.
{وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنه وَهُوَ يَعظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْركْ باللَّه إنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ (13)}.
والعاملُ في إذ مضمرٌ. {وهو يَعظَهُ} جملةٌ حاليةٌ. {يا بُنيَّ} قد تقدَّم خلافُ القرَّاء فيه. وتقدَّم الكلامُ أيضًا على {وَصَّيْنَا الإنسان} في العنكبوت [الآية: 8].
{وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بوَالدَيْه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفصَالُهُ في عَامَيْن أَن اشْكُرْ لي وَلوَالدَيْكَ إلَيَّ الْمَصيرُ (14)}.
قوله: {وَهْنًا على وَهْنٍ} يجوزُ أَنْ ينتصبَ على الحال منْ {أمُّه} أي: ضَعْفًا على ضَعْفٍ، أو منْ مفعول {حَمَلَتْه} أي: عَلَقَةً ثم نطفة ثم مُضغة. وكلاهما جاء في التفسير. وقيل: منصوبٌ على إسقاط الخافض أي: في وَهْنٍ. قاله أبو البقاء. و{على وَهْن} صفةٌ ل {وَهْنًا}.
وقرأ الثقفي وأبو عمروٍ في روايةٍ {وَهَنًا على وَهْنٍ} بفتح الهاء فيهما. فاحتمل أَنْ يكونا لغتين كالشَّعْر والشَّعَر، واحتمل أنْ يكونَ المفتوحَ مصدرَ وَهنَ بالكسر يَوْهَنُ وَهَنًا. وقرأ الجحدريُّ وقتادةُ وأبو رَجاءٍ: {وفَصْلُه} دونَ ألفٍ أي: وفطامُه.
قوله: {أن اشْكُرْ} في إن وجهان، أحدهما: أنها مفسرة. والثاني: أنها مصدريةٌ في محلّ نصبٍ ب {وَصَّيْنا}. وهو قولُ الزجَّاج.
{وَإنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْركَ بي مَا لَيْسَ لَكَ به علْمٌ فَلَا تُطعْهُمَا وَصَاحبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)}.
قوله: {مَعْرُوفًا} صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: صحابًا معروفًا وقيل: الأصلُ: بمعروفٍ.
قوله: {إليَّ} متعلّقٌ ب أنابَ. {ثم إليَّ} متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه خبرُ {مَرْجعُكم}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحكْمَةَ أَن اشْكُرْ للَّه} {الْحكْمَةَ} الإصابة في العقل والعقد والنطق. ويقال: {الْحكْمَةَ} متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث همةَ النفس. ويقال: {الْحكْمَةَ} ألا تكون تحت سلطان الهوى. ويقال: {الْحكْمَةَ} الكوْن بحكم من له الحكم. ويقال: {الْحكْمَةَ} معرفة قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجًا عن كسائك. ويقال: {الْحكْمَةَ} ألا تستعصي عَلَى مَنْ تعلم أَنك لا تقاومه.
{أَن اشْكُرْ للَّه} حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرَّبّ. فهو مقلوب قولهم: كَشَرَتْ عن أنيابها الدايةُ؛ فيقال شكر وكشر مثل جذَب وَجبذَ.
ويقال الشكرُ تحققكَ بعجزك عن شكره. ويقال الشكر ما به يحصل كمالُ استلذاذ النعمة. ويقال الشكر فضلةٌ تظهر عَلَى اللسان من امتلاء القلب بالسرور؛ فينطلق بمدح المشكور. ويقال الشكر نعتُ كلّ غنيّ كما أن الكفرانَ وَصفُ كلّ لَئيم. ويقال الشكر قرُع باب الزيادة. ويقال الشكر قيد الإنعام. ويقال الشكر قصة يمليها صميم الفؤاد بنشر صحيفة الأفضال. {وَمَن شَكَرَ فإنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسه} [النمل: 40]. لأنه في صلاحها ونصيبها يسعى.
{وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنه وَهُوَ يَعظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْركْ باللَّه إنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ (13)}.
الشّرْكُ عَلَى ضربين: جَليّ وخفيّ؛ فالجليُّ عبادة الأَصنام، والخفيّ حسبان شيء من الحدثان من الأنام. ويقال الشّرْكُ إثباتُ غَيْرٍ مع شهود الغيب. ويقال الشرك ظلمَ عَلَى القلب، والمعاصي ظلم عَلَى النفس، وظلم النفوس مُعَرَّضٌ للغفران، ولكنّ ظلم القلوب لا سبيل إليه للغفران.
{وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بوَالدَيْه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفصَالُهُ في عَامَيْن أَن اشْكُرْ لي وَلوَالدَيْكَ إلَيَّ الْمَصيرُ (14)}.
أوجب الله شُكرَ نفسه وشكر الوالدين. ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما، وألا يُكْتَفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما عُلم أنَّ شُكْرَ الحقّ لا يكْفي فيه مجرَّدُ القول ما لم تكن فيه موافقهُ العقل؛ وذلك بالتزام الطاعة، واستعمال النعمة في وجه الطاعة دون صَرفها في الزَّلَّة؛ فشكرُ الحقّ بالتعظيم والتكبير، وشكرُ الوالدين بالإنفاق والتوفير.
{وَإنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْركَ بي مَا لَيْسَ لَكَ به علْمٌ فَلَا تُطعْهُمَا}.
إنْ جاهداك على أن تشرك بالله، أو تسعى بما هو زلة في امر الله- فلا تطعهما، ولكن عاشرهما بالجميل؛ تخشين في تليين، فاجعل لهما ظاهرك فيما ليس فيه حرَجٌ، وانفرد بسرّك لله، {وَاتَّبعْ سَبيلَ مَنْ أَنَابَ إلَىَّ} وهو المنيبُ إليه حقًا من غير أن تبقى بقية في النفْس. اهـ.